أمس كانت ذكرى وفاة نزار قبانى، فى يوم رحيله دار جدل شديد فى مسجد المركز الإسلامى بلندن، كان محور الجدل الساخن يدور حول ما إذا كانــت الصــلاة على جثمـــان نزار حلالاً أم حراماً؟!! كانت مواجهة بين شراسة وقسوة التزمت وسحر وجمال الفن، أكدت تلك المواجهة أن أشد ما يخشى منه المتطرف هو الفن الذى يستطيع هزّ عرشه، والفنان الذى يسحب البساط من تحت قدميه. بلغت الكراهية والعدوانية أقصى مداها ضد نزار حتى وهو جثمان راقد فى نعشه. هناك مفاجأة لا يعرفها مَن رفض الصلاة على جثمانه، وهى أن نزار قبانى الشاعر النجم كتب واحدة من أروع القصائد العمودية فى مدح النبى عليه الصلاة والسلام، والتى يقول فيها: «يا من وُلدت فأشرقـت بربوعنـا، نفحات نورك وانجلى الإظلام، أأعود ظمآنـاً وغيـرى يرتـوى، أيُرد عن حوض النبى هيـام، كيف الدخول إلى رحاب المصطفى، والنفس حيرى والذنوب جسام»، المشكلة أن نزار لم يكن على الكتالوج الذى يريدونه، هم لا يفهمون ما هو الفن، وهو لا يفهم ما هى المشكلة، ما هى مشكلة أن يكون شاعراً متمرداً مبدعاً فى وطن يقول عن نفسه إنه وطن الشعر والفصاحة؟ المشكلة هى أننا مازلنا لا نعرف ما هى وظيفة الشعر والشاعر. هل الشعر ثورة أم عورة، وهل الشاعر محرض أم مهرج؟ هل هو مزعج القوم ومقلق القبيلة، أم هو نديم السلطان ومضحك الملك؟! تعالوا نعرف من نزار نفسه ما هى وظيفة الشعر. يقول نزار: «قد تكون الرحلة متعبة، وقد تحرمكم النوم والطمأنينة، ولكن من قال إن وظيفة الشعر هى أن يحمل لأجفانكــم النوم، ولقلوبكم الطمأنينة.. إن وظيفة الشــعر هى أن يغتال الطمأنينة...»، «مهمـــة الشاعر أن يكون جهاز الرصد الذى يلتقط كل الذبذبات والاهتزازات والانفجـــارات التى تحدث فى داخل الأرض، وفـــى داخل الإنســان. إن جهـــازه العصبى يجب أن يظل 24 ساعة فى الـ24 ساعة فى حالة استنفار ورقابة، بحيث يستوعب كل حركة تحدث تحت أرض التاريخ كما تتحــسس الخــــيول قرب سقوط المطر قبل سقوطه، وهوائيــات الشاعر هذه، تسمــح له بأن يســمع أســـرع من غـــيره، وأقــــوى من غيره، وبهذا المعنى يأخذ الشعر مدلول النبــوءة، إن الشاعر ليس منجماً ولا ساحراً، وليس عنده مفتاح الغيوب، ولكن أهميته فى أن يسبق الآخرين بثانية، أو بجزء من أجزاء الثانية فى اكتشاف الحقيقة، ويقدمها لهم على طبق من الدهشة». إلى كل من رفض الصلاة على جثمانك يا نزار، لقد ماتوا وعِشت أنت، لقد أهملهم التاريخ وألقى بهم فى سلة المهملات وخلدت أنت، لقد عاش الفن ومات الجهل، لقد عاش الجمال ومات القبح، يا من أزعجت القطيع وتمردت على السائد وغردت خارج السرب، وشردت خارج المياه الإقليمية للشعر التقليدى الرتيب، لقد حاولوا قتلك حياً وميتاً، لكنك أخرجت لهم لسانك من عليائك وتخطيت حدود الزمن، صارت موهبتك شعلة استفزاز لخمولهم الإبداعى وفشلهم الفنى، فلجأوا إلى أسهل الحلول، قالوا نزار كافر إباحى صليبى عميل خائن، فقلت أنا نزار وكفى.. سأغيظكم وأحيا رغماً عن أنوفكم، رحلتَ قبل أن يرث الغربان دمشقك الفيحاء، رحلتَ قبل أن يغتالوا الياسمين على جدران البيوت لصالح الصبار على القبور والحنظل فى القلوب والحناجر، رحلت قبل أن يموت الغناء فى الشام ويحكم العويل والندب والنباح، الله جميل يحب الجمال وقد كنت جميلاً، علمتنا أبجديات العشق ومفردات الغرام وشفرة الهيام، منحتنا باسوورد ممارسة الحياة بجد وليس مجرد العيشة بالكاد وعلى الهامش، علمتنا كيف أن الجسد حل وليس مشكلة أو عبئا. رفضوا الصلاة على جثمانك يا نزار بحجة أنهم المؤمنون الحصريون وأنت الخارج المارق، فقررت أن تحتمى بالله من لصوص جنته وحراسه المزيفين.